مقدمة

بعيد سقوط الأندلس في يد الإسبان الكاثوليك وكان ذلك سنة 1495 م على يد ملك قشتالة وملكة الأرغون فيرديناندو وإيزابيلا اللذين باشرا حملة لطرد وتهجير المسلمين من شبه الجزيرة الأيبيرية ومن الأندلس على وجه الخصوص، وبمرور السنوات وازدياد الحملة الصليبية الكاثوليكية ضراوة التي توجت بمحاكم التفتيش ،صدر قرار بعد 100 سنة من أعمال التطهير بتحريم الدين الإسلامي في اسبانيا وقتل وتشريد وطرد كل من يثبت انه مسلم أو عليه تغيير دينه.

في ظل هذه الظروف القاسية على المسلمين وفي خضم هذه الأحداث الرهيبة سخر الله للمسلمين قوة إسلامية ناشئة بدء نجمها يبزغ في أسيا الصغرى على هضبة الأناضول وسواحلها وعلى الطرف الشرقي من البحر المتوسط ، أسس العثمانيون الأتراك القادمين من سهوب أواسط أسيا الدولة العثمانية التي اتخذت الإسلام دينا وحلت محل الخلافة العباسية، وقد وضعت استراتيجيتها للتصدي للتوسع الأوروبي الصليبي بقيادة إسبانيا الذي بدء فعلا يحتل المدن الإسلامية على طول الساحل الشمالي في أفريقيا في هجوم معاكس وردة فعل مشحونة بالمشاعر الصليبية المعادية للإسلام والمسلمين، فكان لا بد أن يحدث صدام بين قوتين عالميتين وحضارتين مختلفتين في هذه الفترة الحساسة من تاريخ المنطقة، ومثل هذا الصدام من جهة المسلمين بقيادة الدولة العثمانية والمسيحيين الصليبيين بقيادة إسبانيا وكان ميدان المعركة حوض غرب البحر الأبيض المتوسط شكل (1)،ومع نشوء هذه القوة الإسلامية الشابة ونتيجة لحالة الضعف التي كان يعاني منها العالم الإسلامي وضعت الدولة العثمانية استراتيجياتها للتوسع نحو سواحل شمال أفريقيا وبذلك اصطدمت بأساطيل الدول المسيحية بقيادة اسبانيا التي كانت لها استراتيجية مضادة في حركة الهجوم المعاكس بعد طرد المسلمين من الأندلس لاحتلال شواطئ شمال أفريقيا .

في هذه الفترة التاريخية المليئة بالأحداث والملاحم بزغت بطولات لربابنة وبحارة مسلمين من دول شمال أفريقيا وربابنة عثمانيين مثل الريس درغوث الذي أستشهد في حصار مالطا شكل (2) وخير الدين بربا روسّا الذي خاض الكثير من المعارك مع الأساطيل المسيحية ،حيث عرفت هذه الفترة فيما بعد بحروب القرصنة حسب المصطلح الأوروبي، إلا أنها كانت في حقيقتها حروب جهادية خاضها المسلمين للدفاع عن بلادهم، في هذه الفترة تم احتلال مدينة طرابلس سنة 1510 ميلادية من قبل الإسبان الكاثوليك وبالتالي لم يكن بدا لأهالي مدينة طرابلس المسلمون إلا أن يستنجدوا بالسلطان العثماني، إضافة إلى تلبية نداء الواجب والدين حيث كان للمشاعر الدينية أهمية بالغة في شن هذه الحملة، وكانت عملية تحرير وإنقاذ طرابلس تكتسي أهمية كبرى في استراتيجية الأسطول العثماني وذلك لموقع المدينة الاستراتيجي والمدن الأخرى بشمال أفريقيا والتي تقع ضمن الخطة العامة للدولة العثمانية لوقف التمدد الصليبي في شمال أفريقيا ، وحيث أن المشاعر الدينية والاستراتيجية تقاطعت في هذه النقطة أرسل السلطان سليمان القانوني بعض من عساكره بقيادة مراد آغا حيث أقام في ضاحية تاجوراء استعدادا لتحرير طرابلس ، بعدها قام السلطان بإرسال أسطول بحري لتحرير طرابلس ،وفي هذه الفترة التاريخية بالذات انتشرت الرباطات الإسلامية.

وهي قلاع بحرية محصنة تقام قريبا من شاطئ البحر للحراسة والرصد لأي مراكب أو أساطيل معادية تحاول القيام بأعمال عدائية، ومن المرجح أن بداية فكرة هذه الرباطات بدأت منذ الغارات التي كان يقوم بها النورمنديين من الأوروبيين على الشواطئ الإسلامية في شمال أفريقيا منذ القرن الثاني عشر الميلادي وبذلك نشأت فكرة المحارس والرباطات لحراسة هذه الشواطئ ،وكان يدفع هؤلاء إحساس عميق بالواجب الجهادي والدين لحراسة ثغور المسلمين ومن المرجح أن كلمة مرابط ورباط شاع استعمالها في شمال أفريقيا منذ دولة المرابطين حتى أن بعض الرباطات كانت مركز جدب للسكان وتوسع العمران حولها حتى أصبحت مدن ،كما هو الحال في مدينة الرباط بالمغرب الأقصى .

في ليبيا لا توجد حاليا مباني تاريخية تمثل هذه الرباطات ولكن توجد فقط بعض الأضرحة المنتشرة على طول الشواطئ الليبية شكل (3 ) والتي تعود إلى أناس عباد زهاد يسموا محليا بالمرابطين ويقال أن سبب وجودهم في هذه المواقع الاستراتيجية يعود إلى رباطهم وفي هذه الحالة بشكل فردي على الشواطئ بغرض الحراسة والمراقبة (1).وتوفر هذه الخلوة فرصة جيدة للعبادة والتدبر في ملكوت السموات والأرض.

في ورقتنا هذه اخترنا جامع مراد آغا بتاجوراء الذي يعبر من حيث طريقة بنائه عن تصميم متميز ويوحي أنه كان يستعمل كرباط جهادي في تلك الفترة من التاريخ التي كانت تتميز بالنشاط البحري للقرصنة المسيحية على الشواطئ الإسلامية ، إذا فهذا الجامع لم يكن غريبا على النسيج الذي انتشر في الشمال الأفريقي بل انه كان رباطا من هذه الرباطات وذلك لقربه من شاطئ البحر وطريقة بنائه وهذا ما سنفصله في الفقرات التالية .

نبذة تاريخية

هناك إشارات تاريخية مختلفة عن تاريخ تأسيس المسجد وردت في عدة مصادر قديمة ومراجع حديثة، ونعرض هذه الإشارات حسب التسلسل الزمني والفترة التاريخية التي كتب فيها هؤلاء المؤرخين عن تاريخ المسجد حتى نستطيع الخروج باستنتاجات تحدد التاريخ الحقيقي لبناء المسجد .

من أقدم المصادر التاريخية التي ذكرت إنشاء المسجد ترجع للطبيب السويسري جيرارد الذي كان مملوكا في طرابلس من سنة 1668م إلى سنة 1676م أي إنه أقام في طرابلس بعد مضي حوالي أكثر من مئة عام على تاريخ تشييد المسجد حيث يقول جيرارد ( إن مراد آغا اغتر باسترداد سيادته على طرابلس في يوم من الأيام فأقدم على بناء قلعة له ،ولما اشتبه درغوت في أمره طلب منه إلغاء خطته فلم يكن مراد بد من الامتثال).

في نهاية القرن التاسع عشر وأبان العهد العثماني الثاني ذكر النائب الأنصاري في كتابه المنهل العذب في تاريخ طرابلس الغرب التالي ( ثم حاصر طرابلس ولم يتيسر فتحها بما لديه من العساكر وفي سنة (57) سبع وخمسين التمس المدد ،ثم أسس طابية صغيرة بين طرابلس وتاجوراء للمدافعة ووجه أنظاره لتمهيد الوطن بكامل الحزم ،وأرسل العمال ،وأمن السبل ،وبسط في الناس العدل ،وقام بالأمر أحسن قيام ،وأسس (الجامع الكبير ) بتاجوراء و(المدرسة ) المعروفة به وأوقف أوقافا جمة).

في القرن التاسع عشر أيضا كتب القنصل الفرنسي شارل فيرو في حولياته الطرابلسية عن الموضوع فيشير أن مراد آغا أخد بنصائح المرابط عبد السلام الأسمر وشيد جامع تاجوراء الكبير سنة (1552) ميلادية.

وفي بدايات القرن العشرين يقول عزيز سامح (أن مراد آغا أنشأ حصنا صغيرا بمثابة مركز أمامي فيما بين تاجوراء وطرابلس ..وقد بنى في تاجوراء مدرسة وجامعا كبيرا مزدانا بعرصات المرمر ).(5)

أما في القرن العشرين فقد علق الباحث الإيطالي بارتوتشيني على الرواية السابقة التي ذكرها جيرارد حيث قال (لم ينبئنا المؤرخ جيرارد عما إذا كانت القلعة في مرحلة التخطيط فقط أو لا، ولكن الحالة التي نرى عليها الجامع اليوم تجعلنا نظن أن الأمر بالإلغاء قد صدر بعد ما بلغت الأسوار المحيطة للعمارة مبلغها من الارتفاع فوق الأساسات ).

ويبدو أن المهندس الباحث غاسبري ميسانا اقتنع بما ذهب إليه جيرارد وبارتوتشيني بخصوص تاريخ بناء المسجد حيث يقول (كان مراد آغا ضابطا بالبحرية التركية وممن اشتركوا في الحملة التي شنها خير الدين برباروس على طرابلس سنة 1532م \ 940هـ , تلك الحملة التي باءت بالفشل ولكنها حققت للعثمانيين احتلال واحة تاجوراء الواقعة على بعد ستة عشر كيلو مترا شرقي العاصمة طرابلس. لقد استقر مراد في هذه الواحة ونصب نفسه ملكا عليها محاولا طوال تسعة عشر عاما توسيع رقعة مملكته. وأخيرا في سنة 1551م \959 هـ اشترك جنبا إلى جنب مع درغوت وتحت إمرة سنان باشا ، في معركة الاستيلاء على طرابلس حيث ظل واليا على البلاد، وبعد سنتين استبدل مراد أغا في منصبه برفيقه في السلاح درغوث فانسحب إلى تاجوراء كئيبا متألما ولكن دون أن يستسلم لليأس والقنوط. أن هذا الظرف العادي في ظاهره سيساعدنا على استيعاب التكوين الغريب الذي أراد مراد إقامته في تاجوراء)

في نفس الموضوع يقول أحد المحدثين وهو نجم الدين غالب الكيب (عندما كان مراد أغا يرابط في تاجوراء مع الذين هاجروا من مدينة طرابلس فرارا من حكم الاسبان فكر في بناء مسجده الكبير بها وقد استعان في ذلك بالمسيحيين الذين قبض عليهم أثناء المعارك الدائرة بين البحرية العثمانية والبحرية المسيحية).

بعدها أفاد الدكتور علي البلوشي في معرض تحليله للمسجد (وقبل تناول المبنى بالوصف و التحليل علينا استعراض الظروف التاريخية المحيطة بتشييد المبنى نفسه، تبين المصادر التاريخية أن صراعا حدث بين أميرين حفصيين وهما رشيد و أحمد ، علي أثره التجأ الأخير إلى تاجوراء مع بعض مؤيديه ، وأعطاهم خير الدين بارباروسا موافقته للإقامة في تاجوراء شرق طرابلس بنحو 20ك.م التي كانت أحد مراكز النشاط البحري التركي منذ سنة 1531ف ، وكان مراد آغا متعاونا مع خير الدين برباروسا في النشاط البحري وصار حاكما لمنطقة تاجوراء سنة 1539ف والتي منها كان يقوم بغارات وهجمات على مدينة طرابلس التي كانت تحت سيطرة فرسان القديس يوحنا. وفي سنة 1551ف عين مراد كأول حاكم تركي على طرابلس وفي ذلك الوقت بدأ مراد بتشييد جامعه).

أي أن البلوشي حدد تاريخ بناء الجامع في فترة حكم مراد آغا وليس في فترة إقامته في تاجوراء أو بعد عزله .

مما سبق نستطيع أن نلخص الفترات التاريخية التي حددها هؤلاء المؤرخون لبناء المسجد بثلاثة فترات وهي:

  1. فترة مرابطة مراد آغا في تاجوراء من سنة 1532 إلى سنة1551م.
  2. فترة حكم مراد آغا لطرابلس من سنة1551 إلى سنة 1553م.
  3. ترة مابعد عزل مراد آغا وتولي درغوث باشا الحكم بعد سنة 1553م .

ومن خلال تحليل أراء هؤلاء المؤرخين نستنتج إلى أن مراد آغا قام بتأسيس الحصن أولا في الفترة الأولى فترة المرابطة وتتميز هذه الفترة بالمناوشات مع الإسبان في طرابلس والاستعداد للهجوم وهذا مما يبرر أن مراد آغا أقام هذا الحصن حيت أنه في حالة حرب وذلك لتجميع قوات المجاهدين في تاجوراء، حيث أقام الإسبان ثم فرسان مالطة داخل الأسوار بالسرايا والمدينة القديمة، وأثناء ذلك كانت تحدث بين الحين والآخر مناوشات وهجومات من الإسبان على الريف الطرابلسي سوى ناحية تاجوراء أو ناحية جنزور.(10)، ولازال ليومنا هذا توجد منطقة تسمى (إسبان) تقع على شاطئء البحر عند مدخل تاجوراء الغربي ناحية مدينة طرابلس، ومن غير المستغرب أن يكون الاسم ارتبط بتاريخ هجومات الإسبان على مراد آغا والمجاهدين في تاجوراء.

أما بناء الجامع الكبير الفسيح وبهذا الحجم وكيف تم تحويل هذا الحصن إلى مسجد ، فيبدو أنه من المرجح أن ذلك بدأ في الفترة الثانية أي أثناء تولي مراد آغا الحكم سنة 1551م وثم في الفترة الثالثة أي بعد عزل مراد آغا عن الحكم بعد سنة 1553م، حيث كان لتقدمه في السن وميله إلى الأعمال الخيرية وكونه صاحب ثروة وانتهاء الأعمال العسكرية،أسبابا مقنعة في تحويل هذا الحصن إلى مسجد،وهذا ما يؤكده شارل فيرو حيث يقول في حولياته (كان مراد آغا “وريث السلطانة” يملك ثروة طائلة وعندما أصبح هذا العلج شيخا هرما لم يعد يهتم سوى بالأعمال الصالحة والخيرية ،وأخذ بنصائح المرابط “عبد السلام الأسمر الزليطني ” فإنه أوقف جميع أملاكه على بناء المساجد والزوايا والكتاتيب ،فإن جامع تاجوراء الكبير من بنائه ،فلقد أوكل بناءه في سنة 1552 م إلى ثلاثمائة من الأسرى النصارى وبناه بأحجار استقدمت من آثار لبدة القديمة ،ولقد وعد هؤلاء النصارى بإطلاق سراحهم إذا ماشيدوا الجامع على أحسن طراز وبأسرع وقد أوفى بوعده بالفعل وأرسلهم إلى أوروبا تقديرا لخدماتهم ،وتوفى مراد آغا بعد مضي ثلاث سنوات من الانتهاء من تشييد الجامع ،حيث ورى جثمانه في ترابه في حوالي سنة 1555م ويقع ضريحه عند الناحية الجنوبية للسور ).(4) ،من خلال ذلك يتبين أن تاريخ تأسيس الجامع أو تحويل الحصن إلى جامع الذي ذكره شارل فيرو وهو 1552م ينطبق مع تاريخ فترة حكم مراد آغا مما يثبت فيما ذهبنا إليه.

أما ما ذهب إليه المؤرخان جيرارد و باروتشيني من تحليل وزعم أن مراد آغا كان يريد إقامة الحصن بعد عزله وأن درغوث باشا منعه من ذلك، فهذه رواية غير متماسكة فحتى في حالة رغبة مراد أغا في العودة للحكم فإنه يعرف أن هذا مستحيل حيث أن درغوث باشا معين من السلطان ، فضلا عن أنه من المستبعد أن مراد آغا يقيم حصنا في تاجوراء لمحاربة الوالي المعين من السلطان في طرابلس ، والرأي الأرجح ما قاله كل من شارل فيرو والأنصاري،أي أن إقامة هذا الحصن كان استجابة لظروف موضوعية متمثلة في إيجاد قلعة أمامية لمحاربة الأسبان ثم فرسان مالطا في طرابلس.

وفي الفقرة الخاصة بالتحليل الهندسي المعماري لعناصر المبنى ،سنبين الكيفية التي تم على أساسها تشييد المسجد، وهل كان أصلا حصنا أو بيت صلاة أو استحكام قبل أن يتحول إلى مسجد جامع ،وسنتعرض لهذا بالدرس والتحليل في تلك الفقرة وذلك لإثبات ما ذهب له تحليلنا لظروف تأسيس المسجد تاريخا ودعمه بإثبات فني هندسي.

الوصف الهندسي لمبنى المسجد

جامع مراد آغا شيد على مرتفع صغير في منطقة وسط ضاحية تاجوراء والمسجد يتكون من بيت صلاة ومئذنة خارجية منفصلة يبلغ ارتفاعها حوالي 24 متر ومن ناحية أخرى شيدت المئذنة منفصلة عن كتلة المبنى والجدير بالذكر أن المئذنة الحالية حديثة نسبيا حيت أن المئذنة الأصلية للمسجد شكل (4) انهارت إثر هزة أرضية حدثت سنة 1901م في المنطقة ، و المئذنة الحالية شكل (5)مقتبسة من طراز مئذنة جامع القيروان شكل(6) فهي مئذنة مربعة على الطراز المغاربي ( كانت لجامع مراد أغا مئذنة منفصلة عن الكتلة الرئيسية للعمارة وقائمة على قاعدة رباعية اخذ قطرها في التناقص من أسفل إلي أعلى , وكانت هذه المئذنة تنتهي في قمتها بحجرة صغيرة تسقفها قبيبة.إلا أن هذه المئذنة قد تحطمت في سنة 1901م . ولم يعد بنائها إلا في عهد قريب بهيكل أطول وبإتقان أجود).(7)

ومن مكونات المسجد فناء كبير حول المسجد ،تبلغ أبعاد بيت الصلاة (38.50 ×33.00 متر ) و من خلال المسقط الأفقي يتبين أن الجامع مشيد على شكل مستطيل شكل (7) طول جدار القبلة فيه (33متر) وهو أقل من طول الجدران المتعامدة على جدار القبلة الذي يوجد به المحراب (كان جامع مراد آغا في الأصل خاليا من معالم الزخرفية الداخلية والخارجية سواء بسواء. ولكن بمناسبة الترميمات التي أجريت حديثا قد أعيد بناء جوفه )المحراب وكسيت بالمرمر والنقوش الجصية كما أحيطت فتحات الأبواب بأشرطة خزفية).(7) ويبلغ عرض الجدران الخارجية للمسجد ( 1.30متر من الأسفل ) وتتناقص بشكل مخروطي كلما ارتفعنا إلى أعلى حتى تصل إلى 0.7متر على ارتفاع 8.60 متر عند منسوب السقف شكل (8)، ويدعم السقف ثمانية وأربعون عمودا شكل (9)، بارتفاع الجدران (3.36متر )شكل.

وعلى الجدران الداخلية توجد ممرات على إرتفاع5.12مترلايزيد عرضها عن 0.50 متر على طول الضلعين الطويلين والمتعامدين على جدار القبلة شكل (11) ويمكن الوصول إلى هذه الممرات عن طريق سلم صغير يقع ناحية جدار القبلة .من ناحية أخرى يلاحظ وجود مجموعة من الحجرات الصغيرة يبلغ عددها 14 حجرة 7 يمين المحراب و7 يساره تصل أبعادها (1.50×0.90الى 1.40) ممتدة على طول جدار القبلة أرضيتها تقع على ارتفاع (0.90متر ) من منسوب أرضية المسجد شكل (12)، بالنسبة للعقود (الأقواس التي تحمل الأسقف تتكون من عدة أنظمة فالوحدات الفراغية تتشكل بأقواس حذوة الفرس (القوس المرتد) شكل (13) ،ومن الملفت للنظر أن هناك أقواس أخرى تعلو الأقواس التي تقع على منسوب أقل تتركز بدورها على الأعمدة والمسافة بين العقدين مفرغة لتخفيف الحمولات وهي تربط بين الأعمدة وفي الأطراف ترتكز نهايات هذه العقود على الحوائط الجانبية شكل (14)، يقول ميسانا في وصفه للمسجد (مما يشير إلى ذلك قبوات السقف المستطيلة المتوازية وأقواس حذوة الفرس وواجهة المحراب في شكل حدوة فرس أيضا ومتركبة من سنجات بيضاء وسوداء متعاقبة. اضطر هذا المهندس إلى مجابهة معضلة أخري تمثلت في تحويل الرباط إلى مسجد.

إن الحجرات المحيطة بجدرانها العادية كانت في حد ذاتها تشكل عناصر التصميم المستجد محدده الخطوط إلى الدليلة لشبكة من المربعات. وقد كفى وضع أعمدة في رؤوس هذه المربعات و إقامة سلسلة من الأقواس الممتدة من الشرق إلى الغرب. و أن هذه الأقواس البالغ عددها الستة تستند سقفا متركبا من خمسة قبوات مستطيله متوازية يبلغ طولها طول المسجد نفسه. وأما الأقواس العرضية الثمانية فإنها- على العكس- تمتد ما بين جدار فاصل وآخر مقابل له مرتكزة -خلال هذه المسافة – على ستة أعمدة وللتخفيف على قطاعات البناء التي تحط على هذه الأقواس فقد جعلت فيها فتحات في شكل قطعة دائرية بحيث تبدو القبوات الطولية من بطونها كأنها مدعمه بنوع من الأضلاع الضخمة).(7)

التحليل الفني لعناصر المسجد المعمارية والإنشائية

من خلال الوصف السابق يبدو واضحا أن كتلة المبنى هي كتلة ضخمة مقارنة مع جميع المساجد التي شيدت في ليبيا ،ومن ناحية التخطيط فإنه يلاحظ أن أبعاد جدار القبلة أقل من أبعاد الجدران المتعامدة وهذا الأمر من الناحية التخطيطية غير معمول به عادة في المساجد حيث أن القاعدة التخطيطية في المساجد تحتم أن يكون طول جدار القبلة أكبر من طول الجدران المتعامدة على اتجاه القبلة ،وهذا ما يفسر أن بداية تأسيس المبنى كان رباطا (حصن عسكري) ، كما يلاحظ السمك الكبير لجدران المبنى والتي شيدت على هذا النحو وذلك للحاجة إلى مقاومة القوى الجانبية نتيجة الأحمال الكبير الناتجة من ارتفاع المبنى ، من ناحية أخرى يبدو أن الممرات العلوية على جانبي الأضلاع الطويلة في المبنى وفوق جدار القبلة لن يكون لها مبرر في حالة كان الاستعمال الأصلي للمبنى مسجدا فقط ولكن يبدو أن الممرات استعملت لحركة العساكر المرابطين على الأسوار عندما كان المبنى حصنا في بداية الأمر ، وعلى طول جدار القبلة توجد حجيرات بها أبواب تفتح على بيت الصلاة وتقع على منسوب 0.9متر تقريبا من أرضية البيت ويذكر انه تم رفع هذه الأرضية في مرحلة من مراحل صيانة المسجد ، ويبدو واضحا أن هذه الحجرات استعملت كمخازن أو استعملت كأماكن لراحة الجنود، والمرجح الاحتمال الأول لصغر أبعادها، ولكننا لا ننسى أن المبنى مشيد منذ أكثر من 450سنة وهناك عدة تغيرات أجريت على مكوناته خلال عمليات الصيانة في كل مرة والدليل الأقوى الذي يؤكد أن الجامع أستعمل في أول الأمر حصنا عسكريا هو البئر الموجود حتى الوقت الحاضر داخل المسجد شكل ( 15) فوضع البئر داخل بيت الصلاة هو وضع غريب ولا يفسر وجوده إلا أن هذا البئر كان مصدر المياه للعساكر المرابطين في الحصن كما جرت العادة بتزويد الحصون بمصدر للمياه في هذا السياق يقول ميسانا (تصميم الجامع ذاته يبدو أكثر دلالة وابلغ معنى ، فلنغض الطرف قليلا عن الأعمدة وعن السقف حتى نرى أن ما تبقى من الصرح يكاد يكون مجرد هيكل رباط أي انه حصن مكون بالدرجة الأولى من سياج مع تشكيله من الحجرات على طول محيطه تصلح سطوحها لمرور دوريات الخفر كما تصلح كساحة للقتال. أما في الوسط فيوجد فناء، أن ما بقي في الوضع الراهن من الحجرات المكتملة البناء والتي عدلت بطبيعة الحال فيما مضى هي تلك الواقعة في الجهة القبلية كما يوجد سلم صغير يوصل إلى سطوح هذه الحجرات . وعلى حد معرفتنا ليس هناك أي مسجد آخر يتميز بتفصيله من هذا النوع، إن الأعمدة النحيفة نسبيا والفتحة الكبرى للأقواس وارتفاع القبوات الشاهق البالغ التسعة أمتار عند عقدة القوس تسبغ جميعها على هذه العمارة الأثرية رحابة داخلية وإيقاعا قيمين جدا يجعلان منها واحدا من أهم الانجازات التي يفتخر بها المعمار الإسلامي في ليبيا).

من الناحية التخطيطية والوظيفية عرف في منطقة الشمال الأفريقي الاستعمال المزدوج لوظائف المساجد وهناك أدلة على ذلك من الممكن أن نجدها في سواحل بلدان المغرب العربي ففي جزيرة جربة في تونس وهي كما نعلم لها روابط وعلاقات تاريخية مع طرابلس وقد تعرضت لهجمات بحرية كبيرة من الإسبان وحلفائهم الأوربيون ، هذه الظروف الحربية حتمت انتشار نوع من المساجد تسمى مساجد الأربطة أو المحارس وهذه المساجد لعبت دورا مهم في أثناء الحروب فهي إضافة لدورها التعبدي توفر ملجأ للسكان المحيطين في المنطقة.

ويبدو واضحا أن تصميم هذه المساجد بارتفاع جدرانها ووجود (السقاطات) أعلى الأبواب وهي فتحات تستعمل لصب الزيت المغلي وإسقاط الحجارة على المهاجمين وقد عرفت في جميع القلاع والحصون القديمة ومن أمثلة هذه المساجد جامع (تاجديت) في جزيرة جربة شكل (16)،أما في مدينة سوسة والمنستير فلا تزال توجد شواهد للرباط الإسلامي شكل (17) وهي قلاع محصنة كانت تستعمل كرباطات جهادية في تلك الفترة التاريخية التي تعرضت لنفس الظروف التي تعرضت لها السواحل الليبية وكانت سبب في تشييد هذه الرباطات ومنها رباط جامع تاجوراء الكبير (جامع مراد آغا) ، ومن المستغرب أنه في السواحل الليبية لم نعثر على أثار لهذه الرباطات فيما عدا قلعة السرايا الحمراء التي استعملت بدون شك كرباط دفاعي ،وشرق مدينة طرابلس تبرز أهمية رباط جامع مراد أغا والتي تؤكد وجود هذه الربطات ذات يوم وعلى طول الساحل حتى ولو أن أكثرها أندثر حاليا. من خلال ما تقدم نستنتج أن جامع مراد آغا شيد في الأصل ليكون رباطا جهاديا (حصن عسكري ) شكل (18)،ونلخص الأدلة السابقة كالتالي:

  • من الناحية التخطيطية نجد أن أبعاد جدار القبلة أقصر من الجدران المتعامدة.
  • ارتفاع وسمك جدران المبنى وكتلته الضخمة يتجاوز المواصفات المعمول بها في مساجد المنطقة .
  • وجود ممرات أعلى الجدران الداخلية.
  • وجود حجيرات على طول جدار القبلة.
  • وجود بئر داخل بيت الصلاة.

التوصيات

من خلال هذه الدراسة ولتعميق البحث في أصول تشييد جامع مراد آغا نرفع التوصيات التالية:

  1. من الأهمية بمكان إجراء حفريات أثرية في موقع الجامع ،مع الحرص على عدم إلحاق أي ضرر إنشائي وذلك للكشف على أي لقيات من الممكن أن تلقي المزيد من الضوء على طريقة تأسيس الجامع.
  2. إجراء المزيد من البحوث التاريخية المتعلقة بتاريخ تأسيس المسجد والبحث في المصادر والمراجع التاريخية حول ذلك.
  3. الكشف على أي عناصر معمارية أو إنشائية أصلية في عمارة المسجد ،ومن الممكن أن الصيانة التي سيشهدها المسجد في الفترة القريبة القادمة ستكون فرصة ملائمة لهذا العمل .

المراجع

  1. علي الميلودي عمورة،( القلاع والحصون والقصور والمحارس” على التراب الليبي خلال مختلف العهود”)، مركز جهاد الليبيين للدراسات التاريخية، طرابلس،2005
  2. جيرارد ،أخبار مملكة طرابلس الغرب، المكتبة الوطنية ،باريس.
  3. أحمد النائب،(المنهل العذب في تاريخ طرابلس الغرب)، مكتبة الفرجاني ،طرابلس
  4. شارل فيرو ،الحوليات الليبية ، المنشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلام ، ط2، طرابلس ،1983.
  5. عزيز سامح ،(الأتراك العثمانيون في أفريقيا الشمالية) ،دار الفرجاني، طرابلس،
  6. ريناتو باروتشيني، (جامع مراد آغا في تاجوراء بطرابلس الغرب)،روما.
  7. غاسبري ميسانا ، المعمار الإسلامي في ليبيا ، ت: علي الصادق الحسنين، الناشر مصطفى العجيلي ، طرابلس 1973.
  8. نجم الدين غالب الكيب، (مدينة طرابلس عبر التاريخ )،الدار العربية للكتاب،ط2،،طرابلس.1978
  9. علي مسعود البلوشي ، (تاريخ معمار المسجد في ليبيا في العهدين العثماني والقره مانللي)، دار الناشر جمعية الدعوة الإسلامية العالمية، طرابلس.
  10. إيتوري روسي ،ت: خليفة التليسي، (طرابلس “تحت حكم الإسبان وفرسان مالطا” )،الدار العربية للكتاب،طرابلس،2003.

مهندس: حسام عبدالسلام باش إمام
جمعية المهندسين العلمية